العرب والزمن
إن ما يمر به العرب اليوم هو كارثة وجودية بكل ما لهذه الكلمة من
معاني وأبعاد... كارثة تهدد وجودهم كأمة، وتقوم بتمزيقهم إلى قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب دينية متحاربة، ما يجعلها توشك أن تمحو كل انجازات الإسلام والعرب عبر ألف وخمسمائة سنة.
إنها كارثة تتعدى قضية الوجود العربي الوحدوي لتجعل العرب، ودون غيرهم من شعوب
العالم، يعيشون خارج التاريخ الحضاري للبشرية، وخارج القيم الإنسانية التي حققها
الإنسان عبر نضال استغرق عشرات الآلاف من السنين. إن قيم الثأر والقتل والتكفير
وسبي النساء والأطفال والحقد والحسد والكراهية هي قيم ما قبل تبلور الحضارة
الإنسانية التي يزيد عمرها عن عشرة آلاف سنة، ما يجعل العرب يتراجعون كل تلك
المسافات والأزمة إلى عصر البربرية البائد الذي حكمته وتحكمت فيه غرائز حيوانية
وشهوات جنسية، بعيداً عن كل معنى إنساني لهذه وتلك.
إن أهم ما يميز الإنسان المتخضر والمجتمع المتحضر
والفكر المتحضر هو أن يعيش الإنسان في الزمن الذي يلامس حياته اليومية ويؤثر فيها
بشكل مباشر، وأن يُسهم المجتمع في تقدم الحضارة التي يعيش فيها ويعكس في مواقفه
وسلوكياته وتطلعاته معطيات تلك الحضارة المادية والثقافية والعلمية، وأن يجسد
الفكر أرقى ما في حضارة البشرية من قيم وأخلاقيات وفلسفة وفنون لا تعرف التقادم.
وهذا يفرض على الفكر والمفكر أن يقف إلى جانب الفقراء والبؤساء والضعفاء والمحرومين
والمظلومين والمستعبدين في الأرض أينما كانوا، متعاطفاً معهم، مدافعاً عن قضاياهم،
مطالباً بحقوقهم، ومرشداً لهم. إن الإنسان المتحضر هو من يرى في كل عمل جميل ما
يثرى حياته وحياة أبنائه وأحفاده من بعده، ويؤمن بأن كل تطور مادي وثقافي وعلمي وتكنولوجي
في أي مكان من العالم نصراً له... إنه ذلك المخلوق الواعي الذي يدرك، باستخدام عقله،
أن ما يميزه عن الحيوانات هو أنه يسعى إلى تحسين ظروف حياته وحياة غيره من البشر، ويعمل
على الحصول على الحرية له ولغيره من الناس، ويحس بالسعادة مع كل سعيد،
وبالشقاء مع كل شقي في كافة أنحاء الدنيا، فالسعادة والشقاء، الأمل وخيبات الأمل، النجاح
واليأس أمراض معدية لا تتوقف عند حدود سياسية أو حواجز جغرافية، ولا تعترف بمحددات
عقائدية أو زمنية.
ولما كان الإنسان المتحضر والمجتمع المتحضر
والفكر المتحضر هو ذلك الإنسان والمجتمع والفكر الذي يتواجد في الزمن الذي يعيش فيه، فإنه
لا يستطيع أن يحتكم إلى فكر أو قيم أو أخلاقيات أو مواقف أو قوانين أو ايديولوجيات
ونظم عفى عليها الزمن، مهما كان نوعها ودرجة قدسيتها، لأن احكام تلك الايديولوجيات
هي أحكام زمن تجاوزه الزمن منذ زمن بعيد. إن كل إنسان ومجتمع وفكر يعيش خارج عصره
هو إنسان ومجتمع وفكر متخلف بكل المعايير المادية والروحانية، ما يجعله يعادي
الزمن وقيم الزمن وأخلاقيات الزمن الذي يعيش فيه، فيما لا يتوقف عن استخدام منتجات
ذلك الزمن المادية. وهذا يجعله إنساناً ومجتمعاً وفكراً شاذاً، يستهلك ولا ينتج، فيما
يكره القيم والنظم والفكر والمعرفة التي صنعت كل المنجزات التي يستخدمها ويركض
خلفها كما يركض قط جائع خلف فأر صغيرة يريد أن يفترسها ليحافظ على وجوده وبقائه. ولما
كان الجائع لا يستطيع أن يعطي ما لا يملك، فإن من يعيش خارج عصره وحضارة عصره يصبح
عالة على البشرية والحضارة الإنسانية، وليس عضواً فيها يُسهم في صنع تقدمها وسُموها.
ومع تمسك الإنسان والمجتمع والفكر المتخلف بمواقفه وفكره وقناعاته، فإنه يجد نفسه
يتراجع يوماً بعد يوم، وساعة بعد أخرى حتى يصل إلى الحضيض، وينقرض كما انقرضت أشياء وحيوانات وشعوب كثيرة من قبله.
د. محمد ربيع