Saturday, September 21, 2013

مقطفات من ذكريات تأبى النسيان: بساتين البرتقال وبدايات التطهير العرقي

 بساتين البرتقال وبدايات التطهير العرقي                     
لم يتغيب الوالد أبداً عن بيارته أي بستانه أثناء قطف محصول البرتقال، مع أنه كان يُضمِنُها لشركات متخصصة كغيره من أبناء يازور وذلك بسبب عشقه لشجرة البرتقال وحبة البرتقال. استمر الوالد في العمل مع شركات المتاجرة بالبرتقال بشكل متقطع، وهي شركات صغيرة في الغالب كانت تُسمى "مشاغل"، تستخدم مجموعة من العمال والموظفين مهمتهم قطف البرتقال وفرزه وإعداده للتصدير، وعدد محدود من السيارات مهمتها شحن البرتقال إلى الموانئ ونقل العاملين من وإلى مكان العمل. كان الوالد، كما أخبرني لاحقاً، يحب أجواء المشغل وليالي السهر والسمر مع الأصدقاء، ويهوى السفر وزيارة المدن والقرى الفلسطينية القريبة والبعيدة على السواء، ويحب التعرف اليها وعلى أهلها وما لديهم من عادات وتقاليد مختلفة. كانت سيارات المشغل تقوم في الصباح بنقل العمال من أماكن تجمعهم في المدن والقرى إلى مواقع العمل في البيارات التي تنتظر دورها ليتم قطف ثمارها، وتعيدهم في المساء إلى أمكنة التجمع. وحين تكون البيارة بعيدة، كان العمال يقيمون في خيام على أرض الموقع، ولا يغادرون البيارة المعنية إلا بعد أن تنتهي مهمة قطف البرتقال، ويتم شحنه إلى المرفأ لتصديره.
بعد تردد وافق الوالد في أواخر عام 1947 على العمل مع الشركة التي اعتاد تضمين بيارته لها، والسفر مع رفاق عمر بعيداً عن بيته وعائلته إلى شمال فلسطين. وحين انتهى العمل في ذلك المشغل الذي استغرق يومين، قام العمال بركوب سيارتيّ نقل، غادرت الأولى في حوالي الثالثة بعد الظهر وعلى متنها حوالي ثلاثين عاملاً وموظفاً، كان والدي أحدهم، على أن تتبعها السيارة الثانية بعد ساعة على الأكثر، ريثما يتم التأكد من تحميل كافة المعدات وركوب جميع العاملين على متنها. وحين وصلت السيارة الأولى إلى قرية الطنطوره في طريقها إلى يافا، اعترضت طريقها عصابة إرهابية يهودية مسلحة مكونة من ثلاثة أشخاص، خرجوا فجأة من بيارة على جانب الطريق. أوقفوا سيارة المشغل، أمروا ركابها بالنزول والاصطفاف صفاً واحداً جنباً إلى جنب، فيما وقفوا خلفهم يتهامسون بالعبرية. كان واضحاً أنهم يدبرون مؤامرة لقتل العمال، ويبحثون عن أفضل وسيلة لتنفيذ جريمتهم من دون أن يُعَّرضوا حياتهم للخطر.
فكر الوالد في الأمر بسرعة، همس في أذن من كان على يمينه ومن كان على يساره من الرفاق، وأصدر لهم الأوامر بالهجوم الفوري والجماعي على المسلحين في حالة قيامهم بأخذ أي شخص من الرفاق إلى داخل البيارة المجاورة. كانت المناوشات المسلحة بين العرب والمنظمات الإرهابية اليهودية حينئذٍ قد اشتدت، وكان أفراد تلك العصابات يتصيدون الفلسطينيين العزل من السلاح، يختطفون كل من استطاعوا اختطافه، يسلبون ما لديه من مال وأشياء ثمينة، ويقومون بعد ذلك بقتله ودفن جثته في أقرب بيارة مجاورة حتى لا يتم العثور عليها وينكشف سرها. وفيما كان المسلحون يتهامسون ويستكشفون الموقع تمهيداً لارتكاب جريمة القتل بحق الأبرياء، كان الرفاق يتأهبون نفسياً للانقضاض على أفراد العصابة اليهودية إذا اقتضى الأمر ذلك، علماً بأن نجاة الأغلبية كانت ستكلف الأقلية حياتها. في تلك الأثناء، وصلت دورية عسكرية بريطانية فجأة، نزل ضابط منها بسرعة، صرخ في وجه الإرهابيين اليهود وأمرهم بالانصراف فوراً، ما اضطرهم إلى الانسحاب داخل البيارة المجاورة. التفت الضابط نحو الرجال المصطفين أمامه على طول الشارع... طلب منهم ركوب سيارتهم ومواصلة الرحلة، وانتظر حتى ابتعدت السيارة عن مكان الحادث. وصلت السيارة الأولى التي كان الوالد على متنها محطتها الأخيرة في مدينة يافا متأخرة حوالي نصف ساعة عن موعدها، ولكن السيارة الثانية لم تصل أبدا... قام الإرهابيون اليهود بالاستيلاء عليها وقتل جميع ركابها من الشباب العرب في مجزرة بشعة لم يُكشف النقاب عنها إلا بعد عقود.

في عام 1946، قبل بدء عمليات التطهير العرقي التي مارستها المنظمات الإرهابية اليهودية ضد الفلسطينيين بسنة ونصف تقريباً، اقنع عمي جمعة والدي بشراء سيارة خاصة بحجة أن سعرها كان أقل من قيمتها الحقيقية بكثير. قام جمعة أبو ربيع بعد شراء السيارة بتنجيد كراسيها وصيانتها ودهنها بلون سماوي صاف سرقه من سماء يازور وبحر يافا الساحر، وبدأ في استخدامها والتباهي بها متجولاً في أزقة يازور وشوارع يافا الجميلة. لكن لم تمض عدة أشهر حتى بدأت يازور وغيرها من قرى عربية مجاورة تتعرض لهجمات متقطعة من العصابات الإرهابية اليهودية. طلب والدي من أخيه حينئذٍ بيع السيارة، لأن العائلة قد تحتاج لثمنها إذا ساءت الأمور أكثر وارتفعت أسعار المواد الغذائية. وحيث أن المدارس كانت قد أغلقت أبوابها في حينه بسبب تعرض مدرستنا للخطر وإطلاق نار، فإنني واظبت على مرافقة عمي إلى يافا، حيث كان يذهب يومياً بحثاً عن مشترٍ لتلك السيارة الجميلة. وفي يوم من الأيام، وفيما كنا في طريقنا عائدين من يافا إلى يازور، وجدنا أنفسنا فجأة في وسط معركة حامية، دارت رحاها بين دورية بريطانية وقوات الهاجاناه اليهودية عند مفترق الطريق الذي يربط يافا ويازور وتل أبيب. نزلنا من السيارة مسرعين، أخذني عمي في حضنه، واختبأنا خلف عجلات سيارة نقل كبيرة وجدت نفسها في وسط المعركة مثلنا. استمرت المعركة حوالي ربع ساعة، حيث كان الرصاص يمر من فوق رؤوسنا، يخيفنا ويدخل الرعب إلى قلوبنا. وحين توقفت المعركة، سمعنا صوت سيارة إسعاف عسكرية في طريقها إلى مكان الحادث. وفي الطريق إلى البيت، قال لي عمي، هذه آخر مرة تذهب فيها معي إلى يافا، لو جرى لك أي شيء لقتلني العبد أبو ربيع، أي والدي، رمياً بالرصاص. بعد عقود طويلة تذكرت تلك الحادثة المرعبة حين شاهدت محمد الدرة يموت في حضن والده في قطاع غزة برصاص يهود مجرمين، حاول آباؤهم قتلنا قبل عقود بمثل تلك الطريقة البشعة.

د. محمد ربيع